مرتكزات أساسيّة لشهادات مصداقة في إطار مناهج ونظم تربويّة متطوّرة

هذه المقالة عربون تقدير للزملاء والأصدقاء الذين تكرّموا بالتعبير عن آرائهم حول مقالة سابقة تتعلّق بالامتحانات الرسميّة، وبالتطرّق إلى أمور نعالجها من خلال اقتراح مرتكزات لتطوير الشهادات، والمناهج، والنظم التربويّة، وذلك في إطار سعينا الدؤوب للاصلاح المصداق للتربية.        

في مقالة سابقة تحت عنوان “التمسّك بالامتحانات الرسميّة التقليديّة جريمة بحقّ الطلبة والمجتمع”، حاولتُ أن أُظهر أنّ هذه الامتحانات تؤدّي إلى انعكاسات خطيرة على التربية وجودتها، وعلى الطلبة والمجتمع، ممّا يستدعي وقف العمل بها حتى استحداث مفهوم جديد للشهادات الوطنيّة يؤمّن لها المصداقيّة (www.hinstitute.org/Site/blogs, April 4, 2016). وقد تكرّم العديد من السيدات والسادة الزملاء والأصدقاء بالتعبير مشكورين عن آرائهم حول موقفي، وذلك بالتواصل المباشر معي أو على صفحات التواصل الاجتماعي. وقد دعت الأكثريّة الساحقة منهم إمّا لإلغاء هذه الامتحانات والشهادات القائمة عليها بشكل نهائي، أو لاستبدالها بوسائل أخرى تسمح برصد تطوّر ملمح(Profile)  كل طالبة وطالب على مدى السنوات الدراسيّة. كما دعا البعض إلى حلّ وسطي يجمع بين صيغة متطوّرة للامتحانات الرسميّة وإعطاء قيمة وازنة لأداء الطلبة في مدارسهم.

أيًّا يكن الحلّ المنشود، فلا بدّ أن يكون في إطار مناهج (Curricula) ونظم تربويّة متطوّرة، وأن يشمل تزويد الطلبة بوثائق مصداقة تُجيز عبورهم إلى التعليم العالي بأنواعه المختلفة. كما لا بدّ أن تشمل هذه الوثائق “شهادة” تُظهر مسيرة كلّ منهم على مدى السنوات الدراسيّة بمصداقيّة، ولا ترتكز على مجرّد امتحانات رسميّة كتلك السائدة في بعض دولنا. لذلك، يأتي ردّي على كلّ الزملاء والأصدقاء في ما يلي بشكل “مرتكزات أساسيّة” لهكذا “شهادة”، أيًّا كان نوعها، وأيًّا كانت الجهة المانحة لها. وتعود هذه المرتكزات غير الشاملة للمناهج والنظم التربويّة كما للشهادة التي تُمنح في إطارها.

1.  لا بدّ لأيّ شهادة، أيًّا كان نوعها ومجالها، أن توضع في إطار منهج أو مناهج محدّدة، وأن تتّسم بمواصفات بنيويّة ووظيفيّة منها الأمانة، والواقعيّة، والفاعليّة في هذا الاطار.

أ.  تقتضي الأمانة أن تلتزم الشهادة منهجًا أو مناهج محدّدة، وأن تُظهر بشفافيّة، وموضوعيّة، ودقّة، مدى تحقيق كلّ طالبة وطالب لنواتج التعلّم (Learning Outcomes) التي تهدف هذه المناهج إلى تحقيقها، وكيفيّة تطوّر تكوين هذه النواتج لدى كلّ منهم عبر السنوات الدراسيّة.

ب.  تقتضي الواقعيّة أن تتعلّق الشهادة بنواتج التعلّم التي يمكن للطلبة تحقيقها في كلّ مرحلة من مراحل نموّهم، والتي يمكن أن يحتاجونها في المراحل اللاحقة وفي حياتهم اليوميّة.

ج.  تقتضي الفاعليّة أن تُثبت الشهادة مدى استعداد الطلبة لمتابعة دراستهم وحياتهم بنجاح، وبالتالي أن تساعد المعنيّين على تحديد ما قد يحتاجونه في هذا السبيل.

2.  تقتضي المواصفات البنيويّة والوظيفيّة أعلاه أن يوضع المنهج (أو المناهج) الذي تعود له الشهادة في إطارٍ مرجعيّ ملائم، وأن يهدف إلى تنشئة مواطن مكتمل المواصفات وقادر على التعلّم مدى الحياة والنجاح في مختلف أوجهها. لذلك لا بدّ للمنهج أن يحقّق ما يلي:

أ.  ألّا يتكوّن المنهج من منظومة ثابتة لنقل مدوّنة لمعلومات وطرائق معلّبة، بل من نظام مرن يعمل على تنشئة طلبة يتحلّون بملمح (Profile) يركّز على أنماط النجاح والامتياز في الحياة المعاصرة. يعود هكذا ملمح لمواطن قابل للتطوّر المستمر (Progressive)، ومنتج (Productive)، ومتعمّق (Profound)، ومبدئي (Principled).

ب.  أن يُحدَّد الملمح بمرونة، وأن يقوم الطلبة بتنميته في بيئة تعلّم ملائمة، ضمن إطار مرجعيّ مشترك بين المناهج المختلفة التي يتابعها الطلبة في حياتهم المدرسيّة، وذلك لتأمين الترابط والتماسك ضمن المادّة الدراسيّة الواحدة وبين المواد المختلفة.

ج.  أن يتضمّن الإطار المرجعي أسسًا ومبادئ واقعيّة تثبتها الأبحاث القيّمة ذات الصلة، ولا سيّما ما يتعلّق منها بتكوين الدماغ ونموّه، وعمل العقل البشري وتطوّره، وببيئة التعلّم الملائمة لتكوين الملمح المرجو تدريجيًّا في المراحل العمريّة المختلفة.

د.  أن يُترجَم الملمح المنشود في برنامج دراسيّ إلى نواتج تعلّم يمكن للطلبة تحقيقها، وتغطّي أبعاد النمو الأربعة المتعلّقة على التوالي بالمعرفة، والمهارات الفكريّة، والمهارات الجسديّة (الحسيّة والحركيّة، بما فيها مهارة التواصل)، والضوابط الوجدانيّة (بما فيها القيم والميول).

هـ.  يمكن توزيع نواتج التعلّم في مجموعات تتعلّق بنظم نمطيّة، على أن تغطّي كلّ مجموعة الأبعاد الأربعة المذكورة، وتتعلّق بنظام معيّن أو مجموعة نظم متشابهة، أكانت هذه النظم مفهوميّة-مجرَّدة، أو ماديّة. ويمكن لكلّ مجموعة أن تُشكَّل لتكوِّن كفاية خاصّة (Specific Competency) لانجاز مهام محدّدة (مثل حلّ مسائل تتعلّق بنظام محدّد أو وضعيّة محدّدة) أو كفاية توليديّة (Generic Competency) تسمح بتطبيق نواتج التعلّم المكتسبة في مجالات غير مألوفة واستخدامها لتحقيق نواتج تعلّم جديدة (وبالتالي كفايات جديدة).

و.  أن يعتمد المنهج مبدأ الوفرة في القلّة (Less is More) في تحديد البرنامج الدراسيّ، فيركّز بالتالي على النواتج التوليديّة أكثر من النواتج الخاصّة، وعلى مهارات اكتساب المعرفة واستخدامها أكثر من محتوى المعرفة في أيّ مادّة دراسيّة، وذلك لأسباب عديدة منها:

–  إن المعارف في تزايد مطّرد، وفي تغيّر مستمرّ في بعض المجالات، لدرجة لم يعد فيها من الممكن الاعتماد على الكتب المدرسيّة والوسائط التقليديّة للاحاطة حتّى بالمفاهيم الأساسيّة، وذلك في وقت باتت المعارف في مختلف المجالات بمتناول كلّ من تتوفّر لديه أيّ وسيلة من وسائل التواصل الالكتروني.

–  إن المعارف والمهارات الخاصّة التي يحتاجها الطلبة في حياتهم اليوميّة والتي قد يحتاجونها في المستقبل، خصوصًا في حياتهم المهنيّة، تختلف بحسب اهتماماتهم واحتياجاتهم الحاليّة والمستقبليّة؛ وفي المقابل، قد يكون هناك بعض القواسم المشتركة في بعض المواد الدراسيّة التي يمكن حصرها والتركيز عليها في المنهج.

–  إن عصرنا الحاضر يشهد يوميًّا ولادة ظروف حياتيّة جديدة، ومهن جديدة، غالبًا لا يسهل توقّعها وتتطلّب معارف وحتى مهارات جديدة لا يمكن أن تتوفّر بين دفتي أي كتاب مدرسيّ.

–  إن التعلّم المجدي الذي يجب أن يركّز عليه أيّ منهج هو الذي يمكّن الطلبة من استثمار أيّ ناتج تعلّم في حالات جديدة غير مألوفة ضمن المجال الذي تحقّق فيه هذا الناتج وخارجه، خصوصًا في الحياة اليوميّة.

ز.  أن يتّسم المنهج بالمرونة في تحديد نواتج التعلّم في كلّ مرحلة عمريّة، وكيفيّة تطوّر كلّ ناتج من مرحلة إلى أخرى، لأن مسارات النمو العقلي والجسدي تختلف بين الطلبة بفعل عوامل بنيويّة وبيئيّة متعدّدة لا يمكن ضبطها في المدرسة، وان كانت هناك بينهم بعض القواسم المشتركة (ولكن غير المتطابقة كليًّا). وهذا الواقع لا علاقة له قط بمستوى “الذكاء” الذي ثَبت أنّه ليس وراثيًّا إلا بنسبة لا تتجاوز الـ 24%، وليس ثابتًا كما يعتقد البعض، بل أنّه يتطوّر بحسب الخبرات الحياتيّة وفرص التعلّم المجدي المتاحة لكلّ فرد.

3.  لا بدّ لأيّ شهادة، أيًّا كان نوعها ومجالها، أن تلتزم بمنظومة قيم تشمل الانصاف، والعدالة، والمساواة.

أ.  يقتضي الانصاف أن تتطرّق الشهادة إلى جميع نواتج التعلّم الأساسيّة والمفصليّة التي يتضمنّها كلّ منهج، وأن تراعي جميع العوامل التي تؤثّر على مدى تحقيق هذه النواتج.

ب.  تقتضي العدالة أن ترتكز الشهادة على أداء الطلبة المستمرّ على مدى السنوات الدراسيّة التي يغطّيها المنهج، وليس على محطّة محدّدة في تاريخهم (مثل الامتحانات الرسميّة التقليديّة)، كما تقتضي ألّا يتاُثّر تقييم هذا الأداء بعوامل لا علاقة لها بالملمح المرجو، وألّا يُحاسَب الطلبة عن أمور لا يتحمّلون مسؤوليّتها (مثل عدم تحلّي معلّميهم بالكفايات المهنيّة الملائمة).

ج.  تقتضي المساواة أن تراعي الشهادة، كما المنهج، الفروقات الفرديّة والجماعيّة بين الطلبة، ولا سيّما ما يتعلّق منها بمسارات النموّ، وقدرات التواصل، والاهتمامات الخاصّة، والوضع الديمغرافي، والانتماء الجغرافي.

4.  لا بدّ للمنهج (أو المناهج) أن يلتزم بمنظومة القيم نفسها التي تلتزم بها الشهادة، وأن يحقّق بالتالي مجموعة شروط منها:

أ.  أن يحدّد المنهج نواتج التعلّم الأساسيّة والمفصليّة التي يعوّل عليها في تقييم ملامح الطلبة في وضعيّات ومحطّات زمنيّة محدّدة، والمسارات المعياريّة لتطوّر كل ملمح عبر السنوات الدراسيّة.

ب.  أن يحدّد المنهج بمرونة أنواع التقييم وآليّاته المختلفة والمناسبة لكلّ نوع من أنواع نواتج التعلّم، والمعالم الواجب اعتمادها في تحديد مدى تحقّق كلّ ناتج وكيفيّة تطوّره عند الطلبة.

ج.  ألّا يكون التقييم هدفًا قائمًا بحد ذاته، بل جزءًا لا يتجزّأ من المنهج، وأن تكون آليّاته، ولا سيّما آليّات التغذية الراجعة المرتبطة به، جزءًا لا يتجزّأ من بيئة التعلّم المتكاملة التي يتناولها المنهج.

د.  أن يركّز المنهج بنسب مقبولة على وظائف التقييم المصداق الثلاث: قياس مدى التعلّم، وترشيد التعلّم والتعليم، واستخدام التقييم كوسيلة تعلّم أساسيّة، على أن تزيد نسبة التركيز هذه من الوظيفة الأولى باتجاه الوظيفة الأخيرة التي هي الأهم بين الوظائف الثلاث.

5.  لا يمكن لايّ منهج أن يؤدّي وظيفته، وبالتالي لايّ شهادة أن تصلُح لاثبات مدى تكوّن الملمح المرجو، وكيفيّة تطوّر هذا الملمح عبر السنوات الدراسيّة، إلّا إذا وُضع المنهج وطُبّق بجميع عناصره ضمن نظام تربوي ملائم. و”الشهادة” التي نتطلّع إليها في إطار المناهج التي حدّدنا بعض مرتكزاتها أعلاه، تقتضي نظامًا تربويًّا يقوم على مرتكزات متطوّرة منها:

أ.  أن تُعتبر التربية رصيدًا أساسيًّا في بناء الوطن، وعنصر استثمار وطني للتنمية المستدامة.

ب.  أن يقوم النظام التربوي على أسس هادفة، ومبادئ وقواعد ومعايير موضوعيّة وشفّافة تتناول جميع عناصر النظام، ولا سيّما عناصر المنهج (في وضعه، وتطبيقه، وتقويمه، وتطويره المستمرّ)، والمدرسة، والمعلّم.

ج.  أن تكون هناك قوانين وأنظمة إجرائيّة وطنيّة ومحليّة تسمح بالتطوّر المستمرّ للنظام التربوي والمناهج المختلفة.

د.  أن تتكامل أنواع التربية ومراحلها، وأن تتعاون المؤسسات التربويّة المختلفة في المجتمع الواحد من أجل تربية مستدامة وخدمة المجتمع.

هـ.   أن تكون هناك معايير وطنيّة موحّدة في الخطوط العريضة، لكن مرنة في التفاصيل، تحدّد المعارف الأساسيّة والنواتج الخاصّة الضروريّة للنجاح في الحياة المعاصرة  – والالزاميّة لجميع الطلبة – ومسارات متعدّدة مقبولة (وليس مسارًا واحدًا للجميع) لتطوّر ملمح الطلبة في مختلف أنواع التعليم وعبر المراحل الدراسيّة المختلفة.

و.  أن يتّسم النظام التربوي بالمرونة بحيث تُترك لكلّ مدرسة، رسميّة كانت أم خاصّة، ولكلّ معلّم، فسحة من الحريّة في إدارة شؤونهم، بما في ذلك اختيار عناصر أيّ منهج وتطبيقها، ولا سيّما ما يتعلّق بمحتوى المواد الدراسيّة، وطرق التعلّم والتعليم والتقييم ووسائلها.

ز.  أن تكون هناك آليّات متابعة، وتواصل، وتبادل معلومات وخبرات حول مختلف عناصر أيّ منهج، داخل المدرسة الواحدة وبين مختلف المدارس.

ح.  أن يشمل مبدأ التعلّم مدى الحياة جميع المعنيّين بوضع المناهج وتطبيقها وتطويرها، ولا سيّما مديري المدارس والمعلّمين، وأن يكون عليهم بالتالي متابعة برامج تنمية مهنيّة مستدامة في مؤسسات تعليم عالٍ مؤهَّلة كي يحافظوا على وظائفهم.

ط.  أن تكون هناك ضوابط على المستوى الوطني تحافظ على جودة التربية في كلّ مدرسة، وحوافز ماديّة ومعنويّة تدفع بكلّ مدرسة وكلّ معلّمة ومعلّم للتطوّر المستمر، وأن تكون هناك بالتالي منظومة ضابطة تمتدّ، بتركيبتها وسلطتها، من المدرسة إلى أعلى مكوّنات النظام التربوي، تعمل وفق الأصول المحدّدة في الفقرات (أ) و (ب) و(ج) أعلاه.

6.  تقتضي المقترحات أعلاه مفاهيم جديدة للنظام التربوي، والمنهج، والمواد والبرامج الدراسيّة، والتعلّم، والتعليم، والتقييم، والمدرسة، والمعلّم، والطالب… كما تقتضي وضع خطط مرحليّة واقعيّة تسمح بالانتقال تدريجيًّا، ومن دون انعكاسات خطيرة، من الواقع الحالي لأيّ نظام تربوي إلى النظام المرجو.

وإلى حين ايجاد البديل الملائم للشهادات التي تقوم على الامتحانات الرسميّة التقليديّة السائدة في بعض دولنا، أذكّر بأن “وقف العمل [بهذه] الامتحانات… أقلّ ضرر بكثير من الابقاء عليها كما هي… وأنّ الابقاء على هذه الامتحانات، بما فيها من شوائب بنيويّة وما لها من انعكاسات خطيرة، جريمة لا تُغتفَر بحقّ الطلبة والمجتمع” (www.hinstitute.org/Site/blogs, April 4, 2016). فعندما يخضع مريض لعلاج يتبيّن أن له انعكاسات خطيرة على حياته، أيّ الحلّين يكون أقلّ ضرر وخطورة: متابعة العلاج الخبيث حتى ايجاد علاج بديل، أم وقف العلاج الخبيث ومن ثمّ البحث عن علاج بديل؟

Click here to download the full text

1 comment on “مرتكزات أساسيّة لشهادات مصداقة في إطار مناهج ونظم تربويّة متطوّرة”

  1. Sara Aljawhari Reply

    مقال جميل ورائع ويحاكي الواقع…وصار لا بد من التغيير ومراعاة ان هذا التغيير ممكن ان يأخذ وقته انا اقترح خطوة تسهل في هذه النقلة الضخمة وهي تفعيل عمل المهنيات وإعطاء شهادة المهنيات قيمة(value)حتى لا تبقى هذه الشهادة مهمشة ولا يختارها الا من يرسب في المدرسة مع العلم انها على العكس تماما….نبدأ أولا بتغيير الفكر السائد عن المهنيات التي هي وسيلة تعلم وتطبيق فعلي على عكس المناهج النظرية في مختلف المدارس..وبهذا ممكن ان يخف الضغط على الجميع الكادر التعليمي والطلاب وممكن البدأ بخلق مناهج مناسبة كما ذكرتم أعلاه وشكرا

Leave A Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *